المدن الأميركية بحاجة إلى المهاجرين

المدن الأميركية بحاجة إلى المهاجرين

في أواخر يونيو، اكتشف اثنان من أبرز المناهضين للهجرة في أميركا أن عدداً كبيراً من سكان مدينة نيويورك وُلدوا في بلدان أخرى. كتب الناشط اليميني «مات والش» على منصة إكس أن 40% من سكان المدينة وُلدوا في الخارج، مشيراً إلى أن «نيويورك لم تعد مدينة أميركية بأي تعريف معقول للمصطلح. إنها مأساة ومدعاة للخزي».

وكرّر «ستيفن ميلر»، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض والمسؤول الفعلي عن سياسة الهجرة، الرسالة نفسها قائلاً: «نيويورك هي أوضح تحذير لما يحدث للمجتمع عندما يفشل في السيطرة على الهجرة». وأضاف: «لفهم وتيرة وحجم الهجرة إلى أميركا في السنوات الماضية، يجب أن نعلم أن ثلث سكان نيويورك وُلدوا في الخارج، وأن نحو ثلثي أطفال المدينة يعيشون في أسر مهاجرة».

ووفقاً لأحدث تقديرات مكتب التعداد الأميركي لعام 2023، فإن نسبة السكان المولودين في الخارج بنيويورك تبلغ 37.5%. ومن المرجح أن تكون النسبة أعلى في 2024، نظراً لأعداد طالبي اللجوء الكبيرة الذين وصلوا إلى المدينة في 2023 و2024. لذا، من حيث الأرقام، لم يبتعد والش وميلر كثيراً عن الواقع. في الحقيقة، كانت نسبة السكان المولودين في الخارج في نيويورك أعلى في القرن 19، وأوائل القرن 20 مما هي عليه الآن، ولم ترتفع كثيراً خلال الربع قرن الماضي.

في عام 1840 كانت النسبة أقل قليلاً من نسبة 45.7% في عام 1850، وكانت أقل بكثير في العقود التي سبقتها بسبب انخفاض معدلات الهجرة إلى الولايات المتحدة بعد الثورة الأميركية وحتى عام 1820 تقريباً.

(في تلك الحقبة، كانت نيويورك تستقبل تدفقات كبيرة من السكان القادمين من مناطق أخرى في الولايات المتحدة، وخاصة من ولايات نيو إنجلاند). أسوأ فترة مرت بها المدينة ربما في تاريخها جاءت بعد أن انخفضت نسبة المهاجرين إلى 18.2% فقط في عام 1970.

كان العقد التالي فترة ارتفاع حاد في معدلات الجريمة، وانخفاض في التوظيف، وأزمة مالية. يمكنك القول: إنها كانت فعلاً «مأساة». لكن وفقاً لجميع المقاييس – المؤشرات الاقتصادية، معدلات الجريمة، الصحة العامة – فإن سكان نيويورك من جميع الخلفيات يعيشون اليوم حياة أفضل بكثير مما كانوا عليه في السبعينيات. على المستوى الوطني، لم تقترب نسبة المولودين في الخارج أبداً من أعلى مستوياتها في نيويورك. فقد بلغت الذروة على مستوى البلاد 14.8% في عام 1890، وتبدو الآن قريبة من بلوغ هذا الرقم مجدداً.

وبالنظر إلى أن الاقتصاد الأميركي شهد ربما أفضل عقد له في الستينيات من حيث النمو الاقتصادي وتوزيع الثروات، يمكن القول إن منتصف القرن العشرين، الذي تميز بانخفاص معدلات الهجرة، كان «العصر الذهبي»، بينما كانت الفترات التي قبله وبعده أقل ازدهاراً. بلا شك، ينجذب المهاجرون إلى المناطق ذات الفرص الاقتصادية الأفضل، لكن يبدو أن هناك ما هو أكثر من مجرد جاذبية اقتصادية. في الولايات المتحدة، غالباً ما يكون الوافدون الجدد هم من يُسهمون في إنعاشها.

وعندما يتوقف المهاجرون عن القدوم، فإن الوضع يمكن أن يتدهور سريعاً. كانت مدن ما يُعرف الآن بـ«حزام الصدأ» تضم في منتصف القرن 19 بعضاً من أعلى نسب السكان المهاجرين. أما الآن، فرغم بعض الزيادات في معدلات الهجرة، فإنها تظل طفيفة. ولفترة طويلة، ترافقت هذه الانخفاضات في الهجرة مع نمو الازدهار. ففي عام 1950، كانت ديترويت المدينة الأغنى في البلاد، وتبعتها كليفلاند وميلووكي وشيكاغو. لكن بعد ذلك، بدأت هذه المدن تفقد السكان والثروات لصالح الضواحي ومدن الجنوب، وكانت شيكاغو هي الوحيدة التي شهدت تدفقات هجرة كبيرة بعد عام 1970. أما سان فرانسيسكو، التي شهدت أيضاً بدايات مهاجرة في القرن 19، فقد بدأت في استعادة نصيبها من المهاجرين منذ خمسينيات القرن الماضي.

ومعها، شهدت مدن كاليفورنيا الكبرى الأخرى زيادات مذهلة في الهجرة في السبعينيات والثمانينيات، مثل لوس أنجلوس وسان خوسيه. ورغم أن النتائج الاقتصادية تفاوتت- حيث عانت لوس أنجلوس، بينما شهدت منطقة سان فرانسيسكو-سان خوسيه ازدهاراً غير مسبوق – فإن الهجرة أدت دوراً كبيراً في تحولات هذه المدن.

أما في الجنوب، فقد أصبحت الهجرة تشكل جبهة جديدة. فبعد الحرب الأهلية، عانى الجنوب من قلة المهاجرين واستمر تباطؤ اقتصادي لعقود. لكن الآن، أصبحت المنطقة قوة اقتصادية متنامية، ومدنها الصاعدة تضم نسباً من المهاجرين أعلى من أي وقت مضى. ولا ينطبق هذا على مدن جنوبية أقل نجاحاً مثل برمنجهام، وممفيس ونيو أورلينز، التي شهدت زيادات متواضعة فقط، ولم تستعد بعد نسب المهاجرين التي كانت لديها في أواخر القرن 19. كانت نيو أورلينز استثناءً في الجنوب، حيث كانت مركزاً للمهاجرين في القرن 19، إذ تدفقت إليها موجات من اللاجئين من المستعمرة الفرنسية السابقة سان دومينج (هايتي الآن)، الذين جاء الكثير منهم عبر كوبا. هؤلاء القادمون ساهموا في تحويل المدينة إلى عاصمة مالية وثقافية وتجارية للجنوب.

أما ميامي، فقد استقبلت لاحقاً موجات من اللاجئين من كوبا وهايتي وفنزويلا وغيرها، وأصبحت اليوم تؤدي دوراً اقتصادياً شبيهاً بدور نيو أورلينز سابقا. وتعد ميامي حالياً المدينة الأميركية الكبرى ذات أعلى نسبة من السكان المولودين في الخارج، بنسبة 55.4%. بعض هذه المجتمعات، مثل هايليا، ذات طابع عمالي، وأخرى مثل دورال، ميسورة الحال.

والمجتمعات ذات أدنى نسب من السكان المهاجرين، فهي غالباً مدن قديمة في الغرب الأوسط والجنوب تعاني الانكماش والفقر. قد تكون بعض هذه المدن، منخفضة الهجرة، أماكن لطيفة للعيش، لكنها لا تسجل متوسط دخل أسري أعلى من المتوسط الوطني البالغ 77,719 دولاراً، ومن شبه المؤكد أن هذا ليس من قبيل المصادفة. فوفقاً لدراسة نُشرت في «أميركان إيكوموميك ريفيو» عام 2022، يتركز المهاجرون في المدن الأكثر إنتاجية والأعلى تكلفة، لأن الكثيرين منهم يهتمون أكثر بتعظيم الدخل لإرساله إلى أقاربهم، أو للادخار من أجل عودتهم إلى بلدانهم، أكثر من اهتمامهم بمستوى المعيشة في الولايات المتحدة.

وقد ساعد هذا التوجه في تعويض «سوء توزيع العمالة المكاني» الناجم عن ندرة السكن في هذه المناطق، ما جعل الاقتصاد الأميركي أكثر إنتاجية، وساعد الجميع – بمعدل عام – على التحسن. وهذا جانب آخر من دور المهاجرين في المدن الأميركية لم يأخذه والش وميلر في الاعتبار عندما قررا مهاجمة سكان نيويورك من المهاجرين. ويبدو أنهما كانا يبحثان عن نقاط للهجوم عقب فوز ظفران ممداني، الديمقراطي الاشتراكي المولود في أوغندا، في الانتخابات التمهيدية لرئاسة بلدية نيويورك – وهو فوز تم تأكيده لاحقاً. المهاجرون يفعلون أشياء كثيرة، لكن تدمير المدن الأميركية ليس واحدة منها.

جوستين فوكس*

*كاتب متخصص في البيانات والشؤون الاقتصادية.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن

Source: مركز الاتحاد للأخبار