ما الذي جرى لليابان بعد أن اكتشفت الإسلام؟
في وقت كتابة هذا المقال عن الثقافة اليابانية يكون موسم تفتح أزهار الكرز قد بلغ أوجه، موسم “الساكورا” الذي يعني بداية الفصول الجديدة.
وربما يلخص الكرز ذلك الولع الياباني بفلسفة الأشياء، وفهم الطبيعة، وحل أسرارها، فهو يرمز للطبيعة السريعة الزوال، في جو مليء بالتغيرات العاصفة، وأمة ناهضة بقوة مشغوفة بالاكتشاف والتجريب علميا، واكتشاف جواهر الأشياء فلسفيا، وربما يكون موسم الساكورا مناسبا لنشر مقال عن الإسلام واليابان وتفتح اليابان عليه دينا وثقافة وقضايا، على أن الخيط الناظم لتعرف اليابان على الإسلام مرتبط بالرحلة والرحالين والمكتشفين.. فكيف كان ذلك؟
طوالسي لغز رحلة ابن بطوطة المحير
لا تبدأ القصة مع اليابان بصورة تقليدية، بل تبدأ بلغز يحتاج إلى حلّ، هذا اللغز يصادفنا في نص رحلة ابن بطوطة، الذي برزت في رحلته إلى الصين بلاد طوالسي التي أرسى في أحد مراسيها الكبيرة، والتقى أميرتها المحاربة التي تتحدث التركية، وحدثته عن الحروب المتصلة بين طوالسي والصين، التي انتصرت فيها طوالسي على الصين، وكل هذه التفاصيل أثارت نقاشا بين الباحثين حول ماهية بلاد طوالسي هذه، فهناك من يرى أنها اليابان، أو الفلبين، وهناك من يرى أنها منطقة تشامبا في فيتنام التي بدأت تدين بالإسلام بعد عصر ابن بطوطة بقرن كامل.
ولم يترجح لأحد حتى الآن رأي قاطع حتى بعد بحث عبد الهادي التازي المستفيض واستعانته بمراجع آسيوية متنوعة في هذا الباب، وإن كان عبد الهادي التازي رحمه الله يشير إلى لقاء جمع وزيرا مغربيا بنظيره الياباني، وأن الوزير الياباني رحب بنظيره المغربي قائلا: أهلا بالمغربي الثاني الذي يزور بلادنا بعد زيارة السيد ابن بطوطة.
ويستند القائلون بأن طوالسي هي اليابان إلى أن الصراع الطوالسي الصيني كان فعلا قائما في تلك الفترة، وأن اليابان عرفت في تاريخها اشتباكات وتنافسا مع الصين قبيل زيارة ابن بطوطة بأربعين عاما بالتقريب، فهل كانت طوالسي هي اليابان حقا؟
اليابان المغلقة.. كيف عرفت الإسلام؟
في كل الأحوال وبغض النظر عن سبق ابن بطوطة، وهو أحد أعظم رحالي التاريخ إلى اليابان أو عدمه، فإن اليابان عرفت الرحالة والتجار والمبشرين الأوروبيين بعد رحلات ابن بطوطة إلى الشرق بقرنين تامين، ولذلك قررت اليابان في عهد شوغون التوكوغاوا إغلاق البلاد عام 1639م، فمنع الدخول أو الخروج من اليابان، بل ومنع اليابانيين من العودة حماية للبلاد والنظام والشنتو، فالساموراي تمتعوا بميزات عالية لم يرغبوا في خسارتها.
وبعد قرنين، وبسبب التنافس التجاري في مجالات صيد الحيتان وغيرها حول المياه اليابانية، أرسلت أمريكا أسطولها بقيادة الكابتن بيري عام 1854م، وألزمت الشوغونية بتوقيع اتفاقات تجارية، اعتُبرت مهينة، وكان الشوغون يدرك أن وضعه لا يساعده على القتال ضد المدافع فأخبار الصين وضعفها أمام الأوروبيين كانت تصل إليه.
انتهت سياسة العزلة بهذا الاقتحام، وبدأ حكم الشوغون يضعف بسبب سخط الناس من عدم قدرته على المقاومة، وظهرت جماعات تطالب بعودة السلطة السياسية إلى الإمبراطور، وهو ما حدث في شكل حركات متعددة، أدت في النهاية إلى استقالة الشوغون من منصبه وتكوين الإمبراطوري ميتسوهيتو الملقب بميجي لحكومة جديدة في 3 يناير/كانون الثاني 1868 فبدأ عهد الإصلاح.
وقفة مع إصلاح ميجي
كانت اليابان على موعد مع فرصة أخرى لاكتشاف الإسلام بسبب إصلاحات ميجي، فقدرها في اكتشاف الإسلام مرتبط بالرحلة والرحالة، فلم يكن إلغاء العزلة كافيا للسماح بتعرف كاف على الإسلام، فبرغم وجود مجتمعات مسلمة في الصين فإن اليابانيين كانوا مشغولين للغاية بمشروعهم النهضوي، الذي ارتبط بالنظام الإمبراطوري، وديانة الشنتو، والإصلاح الداخلي اقتصاديا، وعسكريا.
فقد ترافق إصلاح ميجي مع إرسال البعثات بداية من 1871 إلى الخارج للاطلاع على أحدث التجارب في المجالات المختلفة، من الصناعة إلى التجارة، والمؤسسات الحكومية، فقد كان الإمبراطوري ميجي مشغولا بمشروعه الإصلاحي للغاية، حيث بدأ تغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي، وساعده على ذلك أن مؤيدي حق الإمبراطور في الحكم كانوا أصلا أبناء طبقات متواضعة ولم يكن الترتيب الطبقي إبان حكم الشوغون يسمح لهم بالترقي.
ولكنهم مع العهد الجديد تمكنوا من تشكيل الحكومة، وكانت أعمارهم ما بين نهاية العشرينيات ومطلع الأربعينيات، وكانوا ينتمون لمناطق محددة في اليابان، وظلت هذه المناطق ترفد الطبقة الحاكمة بالكوادر، وفي المقابل كان طموح هؤلاء أن تصبح بلادهم قوة اقتصادية وعسكرية ناهضة ولو على النموذج الغربي، وقد حظيت ديانة الشنتو التقليدية بالتقدير خلافا للبوذية.
ومن أبرز التغيرات التي حدثت إلغاء الإقطاع، ونظام الطبقات الاجتماعي، وامتيازات الساموراي، وأعيد توزيع الأراضي، كما انتقل الإمبراطور من كيوتو إلى إيدو التي سميت طوكيو أو العاصمة الشرقية.
ولكن هذا كله لم يشغل اليابانيين عن السفر، والبعثات، فقد غادرت اليابان بعثات متنوعة، تمكنت من فهم الواقع والمشهد الدولي، ونقل انطباعات متنوعة عن العالم الخارجي، ومن بينها انطباعات عن الإسلام.
اليابان تركيا.. البداية
ولأن اليابان بنت نهضتها بناء على شروط المواجهة مع الغرب، والظروف الدولية التي عانت منها منذ 1854، الذي كان عام حرب القرم التي خسرتها الدولة العثمانية، وشهد موجة من الضغوط الأوروبية عليها، لهذا كانت إسطنبول محطة توقف واهتمام من الدبلوماسيين حتى الرهبان البوذيين.
ففي عام 1871م، مرت بعثة المستشار الإمبراطوري إيواكورا اليابانية بإسطنبول في طريقها إلى أوروبا، وتميزت تقارير الدبلوماسي غينيتشيرو فوكوتشي بالدقة والاستفاضة خاصة في الحديث عن وفرة البضائع التركية في المعارض الأوروبية، كما سجل الراهب موكوراي شيماجي انطباعاته وانبهاره بالمجتمع الإسلامي، وكانت البعثة في طريقها إلى أوروبا والولايات المتحدة للاطلاع على التجارب المدنية والمؤسسية هناك.
وبعد سبع سنوات من زيارة فوكوتشي وتقريره وصلت سفينة حربية يابانية بقيادة الكابتن سياكي، حيث التقى المقدم إينوي بالسلطان عبد الحميد الثاني الذي قال له: سأرسل سفينة حربية لنقل تحياتي للإمبراطور، وأرجو أن تبلغ تحياتي للإمبراطور.
في عام 1880 وصلت بعثة دبلوماسية يابانية غير رسمية برئاسة الأمير هيبي أحد أقارب الإمبراطور، واستقبلت بحفاوة، وفي عام 1887م وصل الأمير كوماتسو في بعثة دبلوماسية ومعه ميداليات تكريم من الإمبراطور للسلطان عبد الحميد.
وفي مقابل ذلك كان السلطان عبد الحميد الثاني يرغب في التواصل مع مسلمي جنوب آسيا وتقديم نفسه خليفةً للمسلمين تحت مسمى الجامعة الإسلامية، فوجد في إرسال مدمرة عثمانية باسم والد مؤسس الدولة أرطغرل فرصة مناسبة للتواصل مع اليابان باعتبارها حليفا محتملا، وفي الوقت نفسه، التواصل مع مسلمي جنوب آسيا.
فانطلقت السفينة أرطغرل عام 1889 بقيادة علي عثمان باشا أحد قادة البحرية العثمانية البارزين، ووصلت بعد 11 شهرا، ومعاناة شديدة وحوادث، وأرست في اليابان يوم 13 يونيو/حزيران 1890م، وبهذا يكون أول مسلم يطأ أرض اليابان هو التركي علي عثمان باشا مع كامل تقديرنا لابن بطوطة وجولاته وبقاء احتمال سبقه.
وبقيت السفينة وطاقمها في ضيافة يابانية مميزة طوال ثلاثة أشهر، وقدم الباشا أرفع الأوسمة السلطانية للإمبراطور الياباني، ووقع هناك وباء الكوليرا ليموت به 15 شخصا من البحارة، ورغم التحذيرات من الأعاصير والرياح فإن السفينة أبحرت يوم 14 سبتمبر/أيلول 1890م من يوكوهاما، وواجهت إعصارا شديدا يوم 16 سبتمبر وقاومت يومين متواصلين.
ثم غرقت في التاسعة والنصف مساء الخميس 18 سبتمبر 1890م، حيث استشهد 581 بحارا ونجا 69 بحارا فقط بمعونة سكان الشواطئ القريبة، وأرسلتهم الحكومة اليابانية على متن السفينة هيبي وكونغو التابعتين للبحرية اليابانية، وانطلقوا إلى إسطنبول يوم 5 أكتوبر/تشرين الأول 1890م، وتضمنت هذه الرحلة كذلك مجموعة من الباحثين للتعرف على الإسلام وأساليب التعليم المتبعة في العالم الإسلامي.
وهنا أسلم الياباني نودا شوتاروا الذي توفي لاحقا عام 1904 في اليابان، وكان ضمن من ذهبوا لمساعدة الناجين من البحارة الأتراك، وقد أقام في إسطنبول بين 1891 و1893م، وعلم اليابانية في الأكاديمية البحرية العثمانية، ثم عاد إلى اليابان وترك هناك طريقة الحياة الإسلامية بصورة عامة.
اليابان والاتجاه نحو آسيا
لكن زخما آخر أضيف إلى الاهتمام بالإسلام، فالتوسع نحو آسيا دفع النخبة اليابانية لفهم الإسلام، فقد توسعت اليابان باتجاه كوريا بسبب حادثة تعرض دبلوماسيين يابانيين للهجوم أثناء صراع داخلي كوري؛ مما دفع اليابان للهجوم على كوريا والاستيلاء عليها بعد صراع مع الصين، ثم انتصرت على الصين، ثم على روسيا في الحرب اليابانية الروسية.
هنا اكتشفت أجهزة الدولة في اليابان وجود المجتمعات المسلمة في الصين وروسيا تباعا حسب الحروب والاحتكاكات مع البلدين، وبدأ جمع المعلومات عن المجتمعات المسلمة في هذين البلدين، وظروفها، خاصة أنها تواجه مشاكل في التعامل مع الإدارة الصينية والروسية، فقد وجدت اليابان في نفسها الثقة بعد انتصارها على البلدين بحيث تستطيع التوسع بهدوء.
وفي المسار الأكاديمي كان قسم التاريخ قد افتتح بجامعة طوكيو على يد البروفيسور الألماني لودفيج برايس، وفي عام 1890م بدأ تدريس تاريخ اليابان، وفي عام 1989 افتتح قسم التاريخ الشرقي مركزا لتاريخ الصين.
عبد الرشيد إبراهيم شيخ الإسلام في اليابان:
تضيف الرحلات والرحالة بمختلف أوصافهم وأسبابهم فرصا جديدة دائما إلى فرص اكتشاف الإسلام في اليابان، فبوصول الشيخ عبد الرشيد إبراهيم عام 1903 وتكرار زياراته سنحت فرص متنوعة ليس فقط لاكتشاف الإسلام، بل والدعوة إليه، فقد كان الشيخ إبراهيم شخصية بارزة بين المسلمين التتر في مناطق الأورال ووسط روسيا، وهو علامة متمكن، وتجول في العالم الإسلامي من قازان إلى إسطنبول مرورا بالقاهرة وانتهاء بالصين، واليابان.
ووجد الشيخ إبراهيم الأفكار الآسيوية قد نضجت لدى اليابانيين، فتحمس لها، ووجد أملا في اليابان للتحالف بين المسلمين واليابانيين للحصول على استقلال المسلمين في روسيا ووحدتهم، ثم خرج من اليابان مواصلا تجواله للغرض ذاته ليعود لاحقا تاركا بصمته، فقد عاد مرتين، إذ عاد عام 1908، لكن السفارة الروسية طلبت طرده بسبب انتقاداته لروسيا.
وفي عام 1910م عاد مجددا بصورة رسمية، وكثف لقاءاته التي وصلت إلى مستوى رئيس الوزراء، حيث تأسست جمعية آجيا غيكاي، وأسلم على يده تاكيوشي أوهارا العسكري الذي سمى نفسه أبا بكر وكان جزءا من أنشطة عموم آسيا بصورة عامة. وكذلك متستارو يامأوكا الذي أسلم وسمى نفسه عمر وأدّى فريضة الحج. ثم غادر عبد الرشيد اليابان ليواصل جولاته في العالم الإسلامي.
بعد الحرب العالمية الأولى بدأت الحكومة اليابانية الاستفادة من جهود الباحثين لدراسة الإسلام والمسلمين والعرب عموما لتجيّش مسلمي الصين وإندونيسيا لصالح أهدافها في مواجهة الغرب، وفي العشرينيات وصلت مجموعات من التجار التتر إلى اليابان مع عوائلهم للتجارة، والاستقرار هربا من روسيا، وحصلوا على استثناءات للإقامة، وبنوا مساجد صغيرة لهم، بينما ترجم كينإتشي ساكاموتو القرآن الكريم إلى اليابانية عن ترجمات إنجليزية.
وفي تلك الحقبة أسلم أما إيبي تاناكا وسمى نفسه نور محمد، لقد كان تاناكا مفكرا وسياسيا وشاعرا يابانيا نشأ بوذيا، واهتم بالأفكار القومية الآسيوية كمجال لعمل اليابان، وقيادتها للأمم الآسيوية، وأمضى وقتا طويلا في الصين، حيث رأى أن المسلمين الصينيين قدموا الإسلام لأنفسهم كما قدموا الكونفشيوسية ولهذا فإن تاناكا أسلم وبقي يمارس عبادات شنتوية وبوذية لفترة، لكنه لاحقا اعتبر أن نموذج الإسلام الصيني مناسب جدا، ثم أدى فريضة الحج، وتعلق كثيرا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال أبياتا شعرية جميلة:
لا يمكن أن أكتب أشعاري
على ظهر الناقة
وسط الصحراء المحرقة
حين أنظر إلى الصبي
الذي يمسك بزمام ناقتي
يرشدني إلى بيت الله
تأتي إلى مخيلتي
ملامح الرسول العربي
عندما كان صبيا صغيرا
بهذه الروح الشفافة كتب تاناكا شعره ملهما. وهكذا كان قدر الإسلام مرتبطا حقا بالرحلة والرحالين، لكن هذه المرة رحلات اليابانيين إلى الخارج، واكتشافهم إياه، وهنا اختلفت الطبيعة عليهم، حتى إن كثيرا من حجاج الصين والقلة التي ذهبت من اليابان عانت من المرض، والضعف ومات أكثرهم.
غادر عبد الرشيد إبراهيم اليابان، ثم عاد مجددا عام 1933م ليستقر في اليابان بصورة نهائية، وترك أثره في توشيهيكو إيزوتسو الذي سيصبح مهتما بالدراسات الإسلامية، حيث عرفه بالإسلام، وبدأ تدريسه العربية، ثم علم إبراهيم بقدوم موسى جار الله بيغييف التتري المعروف، فجمعه بإيزوتسو، وانبهر إيزوتسو بحفظ بيغييف لآلاف الصفحات، وقد قال بيغييف لإيزوتسو في أول لقاء بينهما في منزل إيزوتسو وغرفته المليئة بالكتب: كم تحفظ؟
فرد إيزوتسو: لا شيء.
فقال بيغييف: وهل ستحمل كل هذه الكتب على ظهرك أينما اتجهت حول العالم؟
يذكرنا هذا بالغزالي رحمه الله حينما كان في رحلته لطلب العلم، فقطع اللصوص الطريق عليه، فطلب الغزالي أن لا يأخذوا دفتره ففيه علمه كله، فأعطاه اللص إياه، وقال له: لو أخذناه لبقيت بلا علم؟ وتعجب، فبدأ الغزالي يحفظ كل ما في الدفتر.
لقد أعرب إيزوتسو عن اندهاشه بوجود أشخاص من هذا النوع في العالم، وكان معجبا بطريقة تدريسهما للطلاب المسلمين، واجتهادهما رغم فقرهما الشديد، وأنهما أحيانا لا يجدان ما يأكلان، وقد اهتم إيزوتسو بفلسفة اللغة، والقواعد مستندا إلى حفظ بيغييف لآلاف الصفحات، وهو ما سيترك أثره في إيزوتسو حتى نهاية حياته، حيث سيصبح إيزوتسو أبرز اسم تنجبه اليابان في الدراسات الإسلامية.
نجحت آجيا غيكاي في إزالة التوجس من الإسلام فجعلت الإسلام جزءا من المشهد السياسي والاقتصادي، وحديث عبد الرشيد إبراهيم عن المساواة جعل الإسلام أكثر قربا، وبدعم من عدد من الشركات اليابانية بُني مسجد طوكيو عام 1938م.
الدراسات الإسلامية في اليابان في الثلاثينيات:
أدركت النخبة اليابانية الحاكمة حاجتها إلى مراكز بحثية مكثفة، خاصة مع حاجتها إلى التوسع في آسيا، فتكثفت الدراسات الإسلامية في الثلاثينيات، حيث تأسس أول مركز للدراسات الإسلامية عام 1932 على أيدي إيدا تادسومي نيتو تومهيدو وأوكوبا كوجي وكابايوشي هاجيما وأسموه مركز أبحاث الثقافة الإسلامية، وأصدر مجلة الثقافة الإسلامية، وانقسم المركز إلى مجموعتين، مجموعة أوكوبا كوجي وهاجيما وميتسودا هيساو، وأسسوا مركزا عام 1935 سموه إيزورامو غاكاي، والمجموعة الأخرى شكلت مركز الثقافة والعالم الإسلامي عام 1937.
وهذا المركز ترأسه وزير الداخلية إندو ريسوكو، ووزير البحر سواس تانيتسوغو ووزير الخارجية كاساما أكيو إضافة إلى نايتو تومهيدو، وأصدر مجلة الإسلام – الثقافة الإسلامية، ثم أغلق المركز عام 1939 بعد أن أصدر ستة أعداد من المجلة، وظهر مركز جديد باسم: اتحاد اليابان الإسلامي الكبير، برئاسة رئيس الوزراء السابق: سنجارو هاياشي. كوجي أوكوبو أسس عام 1938م مركز أبحاث العالم الإسلامي، مع هيساو وهاجيما، وبتمويل الأمير: توغوكاوا إيماساو ولاحقا صار ضمن تمويل جمعية الجوار الجيد.
وزارة الخارجية اليابانية أصدرت مجلة بعنوان قضايا إسلامية بين عامي 1938 و1941م موجهة للمسلمين واليابانيين، وصدرت ترجمة القرآن الثانية على يد غورو تاكاشي، وكانت أيضا عن أصل غير عربي، وكانت كترجمة ساكاموتو ترجمة نخبوية ضخمة الحجم، كما افتتح مسجد طوكيو عام 1938م، بدعم من الشركات اليابانية، وأسس أوكاوا شوميي مركز أبحاث آسيا الشرقية الاقتصادي، وكان يهدف لدراسة الأوضاع العامة في شرق آسيا.
أوكوبو كوجي مثلا تخصص في الدراسات التركية، وكان هناك قسم للتاريخ الإسلامي أُنشِئ في جامعة طوكيو، وقد درس أوكوبو كوجي التاريخ الإسلامي في كلية التاريخ الشرقي في طوكيو، ثم أُرسل ملحقا ثقافيا إلى تركيا، وكتب بإحدى الصحف أن تركيا واليابان عمودا آسيا وأن اليابانيين يحترمون أتاتورك، وعبر هو نفسه عن إعجابه بالأتراك وعملهم الجاد، وكان يخطط لنشر مقالات صحفية وأكاديمية، وبعد تأسيسه لمركزه نجح في استقطاب باحثين أكاديميين متمكنين مثل إيزوتسو وغامو رييتشي ونوهارا شيرو.
بتوجيه من كوجي كتب أيزوتسو كتبه الأولى في الفكر الإسلامي وأبحاثه، كانت رؤية أوكوبو تتضمن أنه لتفهم آسيا يجب أن تفهم غرب آسيا أيضا وليس فقط الصين والهند، من جانب آخر فإن إيزوتسو كانت له علاقة وثيقة بأوكاوا شوميي الذي كان خبيرا في الإسلام وثقافته، بل دعا إلى دراسة المذهب الشافعي السائد في جنوب آسيا لفهم التعامل مع المسلمين هناك، واستمر المركز ومجلته حتى 1944م، وأغلقت تلك المراكز جميعها عام 1945 بعد نهاية الحرب، وبلغ عدد الأبحاث المنشورة عبر هذه المراكز جميعها 16000 بحث فيما بين 1930 و1945م.
أما أوكوبو كوجي فحاول العمل على الترجمة وترجم ثلاث سور وتوقف بسبب مرضه، ثم توفي، ولكن أوكاوا شوميي عمل على إنجاز ترجمة من أصول إنجليزية وصينية وفرنسية، وأكد أن ترجمة القرآن إلى اليابانية يجب أن تكون من الأصل العربي وأن المترجم يجب أن يكون مسلما.
ما بعد الحرب العالمية الثانية.. مجالات الاهتمام:
ومع الخمسينيات بدأ اتجاه لدى الباحثين لدراسة الحركات التحررية الشرق أوسطية والإسلامية، مع تاكويو ناكتاني، وبدأت مراكز الأبحاث الاقتصادية والسياسية والشرق أوسطية في الجامعات اليابانية في الستينيات ليبرز اسم توشيهيكو إيزوتسو في السبعينيات وتترجم أعماله إلى الملايوية والتركية والعربية لاحقا.
ثم قدم نوبوأكي نوتوهارا العرب بعيون يابانية، عبر دراسات معمقة في البادية والصحراء العربية، وحلل الروايات والقصص المتعلقة بها.
وحول ذلك كتب نوبوأكي نوتوهارا: “ثقافة الصحراء هي الثقافة البرية، وتلك الثقافة أوجدت المخلوقات التي تعيش في الصحراء: الإنسان والحيوان والنبات والمكان. إنني أتساءل، هل توجد صفة جوهرية لكلِّ المخلوقات في برية الصحراء؟ وهل نستطيع أن نجد قلب الإنسان أيضا؟ نحن خرجنا منذ زمن بعيد من الثقافة البرية، وأقمنا نظاما أخلاقيا جديدا، ولكن أخشى ما أخشاه، أن يقودنا نظامنا هذا إلى نهاية مأساوية؛ ألا تعلمنا الحيوانات البرية أنّ هناك حياة جوهرية مشتركة بين كلّ المخلوقات؟ على أيِّ حال، أعتقد أنَّ هنالك ما أُسميه كرامة الحيوانات التي تُعبِّر بسلوكها عنه، وهذه الكرامة التي أعنيها موجودة في حيوانات برية. إنني هنا أفكر في مصدر عالم الحياة، حيث تصدر المخلوقات كلّها”.
هنا أعود إلى أول هذا المقال، فأزهار الكرز المعبرة عن الطبيعة المزدهرة والمتغيرة التي تعبر عن فلسفة اليابانيين في البحث عن جواهر الأشياء، والتوثق منها، ربما كان نقيضها نباتات الصحراء التي تبقى قادرة على التكيف، وتضطر إلى اتخاذ أصعب الخيارات للبقاء؛ مما يجعل الياباني ابن ظلال الأشجار والخضرة والجبال المثلجة في حالة انبهار بهذا البقاء، ويدفعه لطرح السؤال مجددا عن جواهر الأشياء.
رحلة ورحالون
ابن بطوطة كان جوالا لغاية ما لم نعرفها، وربما يكون قد وطئ أرض اليابان وسماها لنا طوالسي، وليس في هذا كله شيء غريب، ولكن في المقابل، يزور اليابانيون اليوم البلاد العربية، وتركيا وغيرها، ويطلعون على ثقافاتها، وأعرف شخصيا صديقي الياباني محمد تاكيشي فوكوشيما المنغمس في الثقافة العربية، وإن كان يعمل بدقة الحاسوب، وهدوئه الطويل، وحكمته، وفي هذا الزحام كله، يبقى لدينا جميعا حنين غامض للعودة إلى البدء الأول، حيث كنا بعيدا عن منجزات الحداثة التي حالت بيننا وبين الكون الفسيح، ربما هذا ما يجمع لغز رحلاتنا جميعا.. من ابن بطوطة حتى نوتوهارا.
إن قدر اليابان في معرفتها بنا إسلاما ومسلمين كان مرتبطا بالرحلات والرحالين فجوهر الأشياء تكشفه الجولات وليس التأمل فوق متون الجبال.
Source: Apps Support
التمور العربية في بلاد “العم سام”.. كيف اكتسبت هذه الشعبية في أميركا؟
تعد النخلة أقدم شجرة مثمرة زرعها الإنسان، وتحمل في طياتها إرثا ثقافيا واقتصاديا يمتد لآلاف السنين، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن القصة الأقل شهرة هي كيف انتقلت هذه الثمار إلى الولايات المتحدة، وباتت تزرع في واحات صحراوية مثل وادي كوتشيلا بولاية كاليفورنيا الذي يعرف اليوم بأنه عاصمة التمور الأميركية.
إنتاج واستهلاك
في الولايات المتحدة، تستحوذ ولاية كاليفورنيا على أغلب إنتاج التمور، التي تزرع في ولايات أخرى، مثل أريزونا وتكساس، ولكن على نطاق أصغر بكثير.
وبحسب بيانات مركز موارد التسويق الزراعي التابع لوزارة الزراعة الأميركية، أنتجت كاليفورنيا عام 2021 نحو 60 ألف طن من التمور، وهو رقم متواضع إذا ما قورن بالدولة صاحبة أكبر إنتاج في العالم، وهي مصر التي أنتجت في نفس العام 1.7 مليون طن، بحسب منظمة “فاو”.
لكن المقارنة التي بدت غير عادلة، تبدو مفاجئة عند النظر إلى أرقام الصادرات، إذ صدرت مصر عام 2022 نحو 17 ألف طن، في حين صدرت الولايات المتحدة ما يقرب من 16 ألف طن في نفس العام.
وتنقلب المقارنة لصالح الولايات المتحدة بالنظر إلى عائدات التصدير، إذ تحقق الولايات المتحدة 82.34 مليون دولار مقابل 69.5 مليون دولار لمصر.
مغامرات المستكشفين
أواخر القرن الـ19، أطلقت وزارة الزراعة الأميركية برنامجا يعرف بـ”المستكشفين الزراعيين” وهو فريق من الخبراء الذين جابوا العالم بحثا عن محاصيل جديدة يمكن زراعتها.
وكانت الجزائر والعراق ومصر في مقدمة البلاد التي زارها المستكشفون للبحث عن شتلات النخيل تصلح للزراعة في الأجواء الأميركية. وكان من بينهم عالم النبات ديفيد فيرتشايلد الذي قرر السفر إلى بغداد.
أما زميله والتر سوينغل، فقد زار الجزائر عام 1900 ودرس ظروف زراعة التمور هناك، فوجد أن المناخ الصحراوي في وادي كوتشيلا يشبه إلى حد كبير بيئة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، مع توفر مياه جوفية عميقة، مما جعله مناسبا لزراعة النخيل.
لم يكن من الممكن زراعة التمور من البذور، لأن ذلك لا يضمن الحصول على أصناف جيدة من الثمار، لذا قام سوينغل بجلب “فسائل” من النخيل، وهي براعم تقطع من الأشجار الأم وتزرع لتنتج نخيلا مطابقا وراثيا. وكانت هذه العملية شاقة للغاية، حيث بلغ وزن الفسيلة الواحدة نحو27 كيلوغراما، وكان يجب قطعها بعناية ونقلها لمسافات طويلة.
ومع ازدهار فروع نخيل التمر التي زرعها سوينغل في وادي كوتشيلا بدأ المزارعون يطالبون بمزيد منها. ودفع ذلك الأخوين المستكشفين بول وويلسون بوبينو -اللذين كانا يمتلكان مشتلا على بعد ساعات قليلة من وادي كوتشيلا- إلى القيام برحلة طويلة إلى العراق عام 1911، لشراء الآلاف من فسائل النخيل من البصرة وبغداد.
وخلال رحلتهما، أصيب بول بالتيفوئيد بينما عانى ويلسون من الملاريا، وحتى بعد تحميل شحنتهما الثمينة على متن سفينة تجارية، تعرضا لعواصف شديدة كادت تودي بحمولتهما. لكن في النهاية، وصلت 9 آلاف فسيلة نخيل إلى ميناء غالفستون في تكساس، ومن هناك نقلت بالقطارات إلى وادي كوتشيلا، حيث بدأت زراعة التمور الأميركية على نطاق تجاري لأول مرة، وفقا لموقع الإذاعة الوطنية العامة.
من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى “الصحراء الأميركية”
أوائل القرن الـ20، كان لدى الأميركيين افتتان خاص بالشرق الأوسط، متأثرين بالقصص الشعبية مثل “ألف ليلة وليلة” وقصص علاء الدين وحكايات ملكة سبأ وكليوباترا. واستغل مزارعو التمور في كاليفورنيا هذا الشغف لتسويق هذه الفاكهة الجديدة والترويج للمنطقة. وبدأ مزارعو التمور في وادي كوتشيلا إطلاق أسماء عربية على مناطق إنتاج التمور مثل “مكة” و”العربية” و”الواحة” بل وارتدى بعض المرشدين السياحيين ملابس عربية لاستقبال الزوار واصطحابهم على ظهور الجمال.
وعام 1922، أدى اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون إلى إثارة اهتمام الناس وخيالهم بشكل أكبر. فإلى جانب المومياوات والكنوز الثمينة التي عثر عليها في المقبرة، لفتت قطعة واحدة انتباه الناس في وادي كوتشيلا، وهي التمور المحفوظة التي درسوا كيفية صنعها.
واستحدث المزارعون مهرجان “التمور الدولي” الذي كان يقام كل عام منذ الأربعينيات، حيث كان السكان يرتدون ملابس مستوحاة من الشرق الأوسط، وتعرض التمور بأنواعها المختلفة.
ورغم أنه لم يبق الكثير من آثار السياحة الزراعية ذات الطابع العربي في وادي كوتشيلا، لكن التمور لا تزال موجودة. فهي -حسب “سيفل إيتس” Civil Eats، الموقع المختص بالغذاء والزراعة والمناخ- تدر أكثر من 30 مليون دولار سنويا على وادي كوتشيلا، وأكثر من 90% من التمور المحصودة بالولايات المتحدة تزرع في “الوادي”.
أشهر أنواع التمور
اليوم، يُزرع أكثر من 90% من إنتاج التمور في الولايات المتحدة داخل وادي كوتشيلا بولاية كاليفورنيا، ويُعد هذا الوادي موطنًا لأشهر أنواع التمور المزروعة في البلاد، بحسب ما ورد في مكتبة الكونغرس.
من بين هذه الأنواع:
المجدول: يتميز بلونه البني الداكن ومذاقه الحلو، ويُعد من أكثر أنواع التمور شهرة واستهلاكًا في أميركا. ويُذكر أن جميع أشجار المجدول في الولايات المتحدة تعود في أصلها إلى واحة واحدة في المغرب.
وعلى الرغم من أن هذا الصنف أصبح من الركائز الزراعية في أميركا، إلا أنه كاد يختفي في موطنه الأصلي بسبب الأمراض التي اجتاحت مزارع النخيل في المغرب والجزائر. وفي خطوة لإحياء هذا الإرث الزراعي، يعمل بعض المزارعين الأميركيين على إعادة إرسال فسائل المجدول إلى شمال أفريقيا.
دقلة النور: تتميز بقوامها الجاف نسبيًا ونكهتها الغنية، وتُعد من الأصناف الشهيرة في الجزائر وتونس.
البرحي: أصله من جنوب العراق، ويمكن تناوله قبل نضجه الكامل عندما يكون لونه أصفر، ويصبح أكثر حلاوة بعد النضج. ويُعد هذا النوع أقل انتشارًا في أميركا مقارنةً بالمجدول ودقلة النور.
Source: Apps Support