“علاقات إنسانية – قصص مؤلمة وأمل في زمن التحديات”

المأساة.. ترسمها الكلمات الجريحة

في زحمة الأحداث المتلاحقة، التي تشهدها منطقتنا العربية، وضرورة متابعتها على وقتها، لم يُسعفني الوقت للوقوف بالكتابة عن الجَدْ الفلسطيني، خالد نبهان، الشهيد المُبتسم الذي سلبه الاحتلال «روح الروح»، قبل أقل من عام، حفيدته ريم، ورآه العالم، الذي بكى بحرقةٍ عليه، وهو يلتحف بالصبر، مُحتضنًا ومُقبلًا جسدها الصغير، كالوردة مُتلفِّعة بلون شقائق النعمان، وما هي إلا جمرة مُحمَّرة بالدم القاني، مثل شقائقها اللائي سبقنها من كل بيت، بعد أن كسرَّت تلك العظام الرخوة والجسد الغض البريء، قاذفات القتل الإسرائيلية.. لم يكن خالد نبهان جَدًّا عاديًا، بل لم يكن أيضًا شهيدًا عاديًا، كما يقول أمين حبلا.. كان قصة أحزان وأشواق دخلت كل بيت في العالم تقريبًا، ورأى الناس، كيف رسم بكلماته الجريحة، قصة من أفجع قصص الفراق الدامي في غزة.. وبعد طول انتظار وترقب، التحق الجَدُّ بحفيدته «روح الروح»، والتحف نفس البياضَ الذي سبق والتحفته حفيدته، بعد أن خَطَّ رأسه ولحيته، وكساها هيبة ووقارًا، ليزداد إشعاعه، وهو يُغادر الدنيا شهيدًا مُبتسمًا.. فما كانت الشهادة تُخطئ أبا ضياء، خالد نبهان، إلا لتصيبه في مقتل من الروح، وشغاف من الفؤاد، قبل أن تُصبح الحفيدة، وبعدها الجَدُّ، أيقونتين فوق جبين القضية الفلسطينية أمام العالم، يوثقان باستشهادهما الدموي، بشاعة انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي ضد أطفال فلسطين وشعبها، ليكون هذا المشهد جزءًا جديدًا من فصول المأساة المستمرة في فلسطين.انتشل خالد نبهان حفيدته الصغيرة، ريم، من تحت الركام، ولم يكن يُصدق أن عمرها البهيج قد أوقفه الجيش الإسرائيلي عند ثلاث سنوات، وأن ضحكتها التي كانت تملأ البيت سعادة، قد تحولت إلى نشيج دائم، وأن صورها البرَّاقة، قد تحولت إلى أطياف مُحلِّقة تؤرِّق الليل وتُهيِّج الذكرى، وتستدر الدمع النبيل.. يتمسك الجَدُّ الوقور، بالجثمان الصغير، يشُمه ويُقبله، ويُضمه إلى صدره، ويتمنى لو انطلقت من ذلك الكفن الوديع ضحكة طفولية، لتقول له إن الأمر كله كان مُزحة.. لكن «روح الروح» كانت حقيقة في قربها ومأساتها، وحقيقة أخرى صارخة، هي أن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، لم تكن تُفرق بين صغير أو كبير، بين مدني أو مُقاتِل، فقد كان التطهير العِرقي والإبادة الجماعية والعدوان، يستهدف كل ما يرُف بالحياة، من جَفْن في القطاع المدمر، كما يقول الكثيرون.●●●في ديسمبر، وُلِد الَجدُّ والحفيدة، وفيه رحلا معًا في عامين متتاليين.. ففي العام الماضي، وُدِعَت الصغيرة، قبل نحو شهر من عيد ميلادها الرابع.. وفي حين كانت الصغيرة تنتظر تلك الذكرى الجميلة، كان الجَدُّ الحنون يُعد ما يليق بتلك اللحظة الشَّذية بالمشاعر والأحاسيس الرَّقراقة.. وكانت المصادفة الأكثر حلاوة في الأمر، أن الجَدَّ وحفيدته يلتقيان في شهر ميلاد واحد، وكم كان للفرح من أرجوحة في قلب الشيخ النبيل، وكم كان للسعادة من وردة مُتفتقة، ولحن طفولي عذب في القلب الصغير للوردة، ريم، الصغيرة المذبوحة برصاص إسرائيلي.. بعد أشهر قليلة، وُلِدَت لخالد نبهان حفيدة أخرى، أطلق عليها اسم «روجاد»، ويعني وقت صلاة الفجر، أي وقت انبلاج النور من رحم الظلام، ووقت انطلاق عصافير الحياة مُرفرِفة مُزقزِقة في الكون الذي لم يعد فسيحًا، منذ أن أصبحت أزهاره وعصافيره هدفًا لقناص إسرائيلي، يُرسل الموت شِراكًا، قلّ أن ينجو منه جَدُّ ولا حفيد.ورغم عمق المأساة والألم الذي أحدثه رحيل «روح الروح»، فقد ظل الجَدُّ خالد ذا روح مُفعمة بالحب والجمال، كان حاضرًا بقوة في الإنقاذ والتثبيت، مالكًا لأسلوب رائع في تخفيف المآسي على قلوب الصغار، يملك روحًا مشرقة، وخطابًا إيمانيًا مُتوثبًا، ويعيش عالمًا من الرضا، يُلين راسيات الجبال، ويذيب ـ لو كان لفراق «روح الروح» من سلوان ـ ما يُراكمه الحزن اللاهب من جبال ألم، وما يسقي من أودية أشجان.. فريم وخالد، حفيدا خالد نبهان، روحان من وهج الحياة المحروقة في غزة، وقصتان من بين عشرات الآلاف من القصص الموحِّدة العناوين المختلفة، في حين تُغرز مخالب الألم في تلك القلوب الرطبة والأجساد الصغيرة.. إنها قصة قتل الحياة، وسفك دم الطفولة الرَّقراق.. لكن خالد، كان من بين أفصح الجراح التي تمشي على قدمين، وأبلغ الأصوات التي تتحدث بلسان، كان صوته وصِيته وبسمته وحزنه وأشواقه رسائل تدُك العالم كله، تتحطم أمامها أسوار التجاهل، فقد كانت عبارة «روح الروح»، تهُز ما بقيَّ من روح في العالم المُخدَّر.ولأن روح خالد كانت قد حلقت في عالم الأشواق، يوم أرخى للحزن زمامه، أسِفًا على «روح الروح»، فقد كان يحث السير ويترقب الرحيل كل حين.. وفي واحدة من آخر تغريداته على حسابه على الإنستجرام، كان الرجل ينظر من طيات الغيب، ويهتف عبر ستائر الأشواق إلى حفيديه، بأنه قادم إليهما قريبًا.. «هل نلتقي؟، فالبُعد مزّق خافِقيَّ.. هل نلتقي من بعد شوق مُحرق صدقًا؟.. توقفت الحياة، وما لها في ليل هجرك أي فجر مشرق»، كما تقول كلمات الأنشودة التي كانت مرافقة لصورة، نشرها قبل نحو أسبوع على حسابه في إنستجرام.●●●مثل كل الأجداد، وكما قيل في المثل الشعبي «أعز من الوِلد، وِلد الوِلد»، نشر رواد مواقع التواصل الاجتماعي على كل المنصات، لقطات من حياة الشهيد خالد نبهان وحفيدته «روح الروح»، والتي كانت توثِّق مدى ارتباطهما ببعض، خصوصًا تلك الصور التي كان يملؤها المرح واللعب والضحك.. كان الجَدُّ يعرف جيدًا ما يُحبه أحفاده من الحلوى والفواكه، وكان دائمًا يُحضرها لهم.. قال اثناء استشهاد حفيديه، «إنهما يحبان التفاح والموز»، يبحث عنهما بعد الحصار لكي يوفر لها إياهما، ولكن القدَر سبقه وارتقت روحهما البريئة.. المشهد المؤلم، كان جثمان روح الحفيدة باردًا، ومغمضة العينين، ترتدي «فردة حلق» واحدة في إحدى أذنيها، والأخرى ضاعت مع القصف، فأخذ خالد نبهان هذا الحلق، وقام بتشبيكه في جلبابه على هيئة دبوس، وكأنه يريد قطعة من حفيدته ترافقه حتى يلحق بها.. وخلال توديعها، خاطبها قائلًا (كنت أقول بكرة بتخلص الحرب يا جِدو، وبتروحي على الروضة وبتجيبي أعلى الدرجات.. باستشهادك هيك، نلتِ أعلى درجة، أعلى درجة يا جدو، هيك أنتِ خلصتِ روضة وخلصتِ جامعة يا روح القلب، يا روح القلب).بعد فترة من استشهاد «روح الروح»، رُزِق خالد نبهان بحفيدة أخرى، وكأن من رحم المعاناة يُولد الأمل والسعادة من جديد، لتملأ قلب خالد الفارغ من محبوبته من جديد، وقد ظهر وهو يُكبر في أذن الصغيرة، وكأنه يعيد نفس المشهد مرة أخرى، ولكنه هذه المرة بفرح وأمل، ونظرة للمستقبل بأن ينتهي الاحتلال عما قريب.. وكأن روحه معلقة بـ «روح الروح»، وكأنه كان يسعى طوال الفترة الماضية لكي يلحق بها في جنات النعيم.. فلا ننسى المقطع الذي كان يواسي فيه إحدى الأطفال بعد بتر ساقها، وهو يقول لها «لقد سبقتك إلى الجنة»، ليستيقظ الغافلون على خبر استشهاده هو أيضًا.. الخبر الذي جدَّد الألم من جديد، ووثَّق أحداث دامية يتعرض لها الشعب الفلسطيني.●●●وكما حفيدته، استشهد الجَدُّ خالد نبهان، في قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات.. مما أثار تفاعلًا واسعًا بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، ونشروا عنه عشرات الآلاف من المنشورات، مُستذكرين حفيدته وجملته الشهيرة لها. قال المُغردون، «اليوم يلتقي الشيخ خالد بروح روحه في الجنة شهداء»، ونشر أحدهم مقطع فيديو لجثمان الجَدِّ، مُعلِقًا، «لم يحتمل عام على فراق روح الروح»، وكتب ثانٍ «روح الروح.. كلمات هزت قلوبنا وأبكت أعيننا.. اختزلت كل معاني الحب والفَقْد.. اليوم، يجمع القدر بين الروح وروحها».. ونشرت صفحة «نحو الحرية» من السعودية، مقطع فيديو لسيدة أجنبية وهي متأثرة بوفاة الجَد خالد، وتقول «أنا مُحطمة تمامًا.. غريبٌ، كيف يمكن أن تتأثر بوفاة شخص لم تقابله أبدًا.. الضوء الوحيد في هذا الظلام، أنه سيجتمع مع حفيدته الجميلة الصغيرة أخيرًا».. وكتب أحد مستخدمي منصة X من غزة، «لقد كان روح الروح خسارة في هذه الدنيا الظالمة».ويقول حفيظ دراجي من الدوحة، «صاحب مقولة روح الروح يلتحق بحفيدته.. رحل الروح وترك في القلب جروح»، وتداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو، يُظهر جُثمان الجَدِّ خالد في المستشفى، وآخرَ يُظهر جنازته في قطاع غزة.. «الروحان تلتقيان»، هكذ علَّقت صفحة «حكاية» عبر إنستجرام على نبأ وفاة الجًدِّ، مضيفة أن «الجَدَّ خالد احتضن حفيدته بكل الحب والحزن، بكل ما في هذا العالم من ألم، ويقول بهدوء الصابر مفطور القلب: هادي روح الروح».. فيما نشر كريم اسماعيل، صورة تعبيرية للجَدِّ وهو يحضن حفيته، مُعلقًا «هو الآن مع روح الروح».●●●لقد أثار مقطع الفيديو للجَدِّ نبهان، وهو يحمل جثمان حفيدته ويلاطفها بكلمات حنونة، ويحتضنها في لحظات الوداع الأخير، وكأنها لا تزال حية، «كنت أقبلها على خديها وأنفها وكانت تضحك.. قبلتها لكنها لم تستيقظ»، تعاطفًا وتضامنًا عالميًا، وانتشرت عبارة الشيخ في كل بلاد العالم، ورُفِعت كشعار في المظاهرات المتضامنة مع القطاع، بأكثر من بلد أوروبي وفي الولايات المتحدة.. وكذلك رسم ناشطون جرافيتي للشيخ نبهان وحفيدته الشهيدة على جدران مدن وشوارع.. كان الرجل الشيخ يقول، «وضعتهما ـ الحفيدين ريم وطارق ـ في القبر وأنا أشعر أنهما أحياء، خلال الليل أقول لنفسي ربما هما أحياء، لا أعرف».. وفي مقطع قصير بعنوان «روح أرواحنا»، تضامن ناشطون من جميع أنحاء العالم مع الجد، في ذكرى ميلاده وميلاد حفيدته الشهيدة بداية العام الماضي، قائلين، «نحن نحبك والعالم كله يراك ويحبك.. إن صمودك وصبرك يلهمنا ويحركنا».. وأظهرت لقطات فيديو، الغارة التي شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية على مخيم النصيرات، والتي استُشهد على إثرها الشيخ نبهان، بعدما طال القصف تجمُعًا لعدد من المدنيين هناك.. لقد استُشهد ستة فلسطينيين، بينهم نساء وأطفال، وإصابة آخرين، في غارة على منزل لآل أبو حجر في مخيم النصيرات وسط القطاع.مات الشيخ شهيدًا، وقد نعاه الكثيرون، «مرتكبو الإبادة الجماعية قتلوه للتو، الآن يمكنه أن يكون مع محبوبته».. وكتبت الناشطة وسام صالح على X، «روح الروح استُشهد،.. لا أستطيع نسيان ريم، وأتخطى شعرها.. لقد استُشهدت وكان الشيخ في المخيمات يُهدي الأطفال تفاح وفراولة على روح ريم، ويُسرِّح للطفلات شعورهن على طريقة ريم وجدائلها، وكذلك للأطفال شعر كطارق، اليوم ذهب إليهما».. رجل الشيخ بعد أن تحولت عبارته «روح الروح» إلى رمز للمأساة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة في ظل الحرب الإسرائيلية.. وبرحيله، فقد المجتمع الفلسطيني أيقونة إنسانية جسدت الحزن والصبر، تاركًا وراءه أثرًا عميقًا في قلوب كل من تابع قصته.. شيَّع أقارب نبهان جثمانه وسط حالة من الحزن الشديد، رغم خطورة الأوضاع الأمنية في مخيم النصيرات، لتُوَارى حكاية «روح الروح» إلى مثواها الأخير.وبرحيل خالد نبهان، لا يُضاف اسم جديد إلى لائحة طويلة من الشهداء فحسب، بل تُكتب قصة ميلاد ملحمة حزن عابر للأيام، وقصة أجيال جمَّع بينها العدوان الإسرائيلي، في كفن منسوج من عبق الكلمات الجريحة والأشواق المُطهرة، والرضا والتوَّكُل، والمقاومة التي تأخذ كل لبُوس، من قسمات الطفل الرضيع، وهو يتلقى الرصاص قبل أن ينقطع حبله السري، وبسمة الرضيع وهو يستنشق عبق المقاومة ويحتسي لبن الجهاد، ومن «روح الروح» وهي تكتب للحزن آمادًا مُفعمة بالألم، وترسم قصة جَدٍّ، ملأ الدنيا حُبًا وشغل الناس حُزنًا، ومضى إلى حيث مراقِد الصالحين، ومنازِل المُقاومين، إلى فردوس مديد، وروح وريحان، إلى حيث «روح الروح».حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

Source: جريدة الدستور